الدائرة المستديرة: إلى أي مدى يستطيع الاقتصاد الإيراني الصمود أمام العقوبات الأمريكية؟
نظَّم مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانيَّة والاجتماعيَّة بجامعة قطر دائرة مستديرة افتراضية يوم الأربعاء الموافق 27 صفر 1442هـ /14 أكتوبر 2020م بعنوان: "إلى أي مدى يستطيع الاقتصاد الإيراني الصمود أمام العقوبات الأمريكية؟"، وذلك عبر منصة ويبكس (Webex) الإلكترونية. وقد جاءت هذه الندوة ضمن إطار المواكبة أحد الأطُر الخمسة التي يعمل في ضوئها مركز ابن خلدون بجامعة قطر، وتهدف إلى دراسة الوضع الحالي للاقتصاد الإيراني ومناقشة ما إذا كانت إيران ستستمر في الصمود في وجه الضغوط المستمرة للعقوبات الأمريكية وجائحة كورونا، أم أن هناك في المستقبل القريب ما سيغير من هذا الوضع.
وقد شارك في هذه الجلسة الافتراضية ثلاثة متخصصين، من روسيا وإيران والولايات المتحدة: الدكتور نيكولاي كوزانوف أستاذ مشارك في مركز دراسات الخليج بجامعة قطر، والسيد. إسفانديار باتمانجليج مؤسس وناشر الشركة الإعلامية Bourse & Bazaar. والسيد. مايكل سينغ المدير الإداري لمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وأدار الجلسة د. علي باكير باحث في مركز ابن خلدون.
وقد عمل هؤلاء المتخصصين على شرح وتحليل العوامل الداخلية والخارجية بشكل واقعي، وكذا التطرق إلى السيناريوهات المستقبلية التي لها تأثير على الاقتصاد الإيراني.
وبدأ المتخصصون بتقديم إجابات عامة على السؤال المطروح، فجادل باتمانجليج بأن الاقتصاد الإيراني كان "يُظهر درجةً كبيرةً من المرونة" إلى أن ضربت جائحة كوفيد-19 إيرانَ، لاسيما قطاع التصنيع فيها. مع الإشارة إلى أن العقوبات الأمريكية التي أعيد فرضُها بدأت تسري اعتبارا من أوائل عام 2017 وخصوصا بعد انسحاب الولايات المتحدة من خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA) في عام 2018. وقد أكد باتمانجليج أن الاقتصاد الإيراني أظهر مرونةً في ظل العقوبات، لكن ليس إلى حدِّ المضي قدمًا.
من جانبه، قال سينغ إنه بالنظر إلى الاقتصاد الكلي؛ تواجهُ إيران قضايا معقدة ناجمة عن العقوبات وكذلك الفساد وسوء الإدارة، وهذا – وفقًا لسينغ- مختلفٌ عن "مرونة إيران السياسية في مواجهة الضغوط الاقتصادية" التي تُؤخذ بعين الاعتبار داخل دوائر السياسة في الغرب.
علاوة على ذلك، أوضح كوزانوف أن هناك بعدًا زمنيًا ينبغي استحضارُه عند دراسة مرونة الاقتصاد الإيراني؛ فبعد أن كانت إيران في وضعٍ جيدٍ في مقاومة الآثار المباشرة للعقوبات في البدايات (في عام 2018) فإن المدى الطويل لـتأثير العقوبات على البنية التحتية بدأت الآن تضرب إيران، الأمر الذي "قوّض مقدرة إيران على تطوير الصناعات الأساسية خاصة قطاعي النفط والغاز".
واستنتج باتمانجليج أن العقوبات لم تؤثر سلبًا على القطاع الصناعي الإيراني بشكل مباشر، بمعنى أن العقوبات وتخفيض قيمة العملة الإيرانية أعطى للبضائع الإيرانية "ميزةً تنافسيةً أكبر نسبيًا" في الأسواق الدولية. في الوقت نفسه، أكد أنه بينما نجحت هذه الشركات في إيران في إنتاج المزيد من السلع للاستهلاك المحلي، بسبب قلة المنافسة داخل إيران إضافة إلى التصدير أكثر إلى الأسواق الإقليمية، فإن حقيقةَ وجودِ صعوباتٍ في استيراد السلع لاسيما المواد الخام والآلات التي تحتاجها قطاعات التصنيع الإيرانية، كان لها تأثيرٌ قويٌ على الاقتصاد الإيراني. ولهذا خلص باتمانجليج إلى أن ضغوط العقوبات المفروضة على الواردات لها تبعاتُها على النمو الاقتصادي أكثر من تلك المفروضة على الصادرات. وأضاف أن "أكبر مشكلةٍ تواجه التصنيع في إيران هي ارتفاعُ أسعار المواد الخام والسلع الوسيطة إضافة إلى التأخير في تسليم تلك البضائع".
وقد جادل كوزانوف بأن العقوبات وتراجع تصدير النفط الإيراني عززتا من "التنويع الرأسي" الذي طوّر جزئيًا قطاعَيْ النفط والغاز الإيراني. وأن مسألة ترك المستثمرين الأجانب صناعةَ النفط الإيرانية أجبرت إيران على الاعتماد على قدرتها المحلية المحدودة. وفي ظل العقوبات، أصبح من الصعب على هذه الشركات جذب مستثمرين ورؤوس أموال أجنبية، مما يؤدي إلى تأخيرٍ طويلٍ في تنفيذ المشاريع المقترحة.
روسيا على سبيل المثال كانت لاعبا أساسيا في رفع مرونة إيران أمام العقوبات الأمريكية، ومع ذلك يؤكد كوزانوف بأن موسكو تستغل الوضع الحالي لتعزيز مصالحها الخاصة. المشكلة أن روسيا نفسها تواجه مشكلاتٍ اقتصادية، وبينما تخضع بعض الشركات الروسية أيضا للعقوبات، الأمر الذي يجعلها في وضعٍ أقرب إلى الشركات الإيرانية، فإننا نشهد الآن "انسحابًا تدريجيًا للشركات الروسية من إيران"، مثل عقد السكك الحديدية الروسية. ويمكن لروسيا – من وجهة نظر كوزانوف- أن تقدم "مساعدةً نفسيةً" لكن هذا أمر مختلف عن الناحية العملية. بهذا الصدد، أشار كوزانوف إلى حقيقة أن حظر الأسلحة الذي فرضه مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة على إيران سيُرفع في 18 أكتوبر/ تشرين الأول، وفي حين قدمت روسيا الدعم لإيران، فإنه ينبغي النظر إليه على أنه "بادرة رمزية"، لأن "المجتمع الصناعي العسكري الروسي محتاجٌ إلى المال، وهو يشك في أن إيران تملك حاليا رأس المال اللازم للإنفاق".
فيما يتعلق بالصين، حدثت تطوراتٌ مهمةٌ في العلاقات الصينية الإيرانية في السنوات القليلة الماضية، خاصة مع الإعلان الأخير عن اتفاقية شراكة استراتيجية شاملة طويلة المدى. وتعد الصين اليوم " الزبونَ الوحيدَ الذي يشتري النفط الإيراني بكميات كبيرة بما يخالف العقوبات الأمريكية"، وهي "المزود الرئيسي للصادرات الصناعية" مما يسمح لها بلعب دورٍ خاصٍ في الاقتصاد الإيراني، وتحديد مدى صمودها أمام العقوبات بحسب باتمانجليج. ومع ذلك، يؤكد الأخير أنه بالرغم من أن الصين لا تزال الشريك التجاري الأكبر لإيران، فإن الشركات الصينية، على غرار روسيا، حساسةٌ تجاه مخاطر العقوبات الثانوية. والاتفاقية الصينية -الإيرانية طويلة المدى وفقًا لباتمانجليج "تنسيق معياري في السياسة الخارجية الصينية" وهي نموذج أيضا لما تبدو عليه الشراكة بين الصين والمملكة العربية السعودية. على هذا النحو فإن المبالغة في تجسيم العلاقات الاقتصادية والاستراتيجية بين إيران والصين لا يعكس الواقع الحالي. ومع ذلك، تأمل إيران في تنمية هذه العلاقة لتعزيز العلاقات في المجالات الاقتصادية والاستراتيجية.
وفيما يتعلق بتعاون إيران وعلاقاتها الاقتصادية مع الدول الإقليمية، قال كوزانوف إنه لا ينبغي تضخيم دور هذه الدول الصغيرة، إلا أنها ساعدت إيران إلى حدٍ ما في مقاومة الضغوط الناجمة عن العقوبات.
علاوة على ذلك، كانت دولٌ مثل عمان وقطر والإمارات منذ بداية العقوبات على إيران حاسمةً لإيجاد ثغرات للالتفات على العقوبات الأمر الذي أتاح لإيران الوصول إلى ما تحتاجُه من السلع الاستهلاكية والسيولة. ومع ذلك، فقد تغير هذا أيضا في الماضي القريب، إذ أكد سينغ أن الولايات المتحدة وغيرها من صناع السياسة الغربية يدركون جيدا ويقبلون حقيقة أن دولا مثل تركيا والعراق وجيران إيران الآخرين ستستمر دائما بالتمتع بمستوى تجاري، ولا يوجد قلقٌ كبير من أن أنواع التجارة المستمرة ستمنح إيران "شريان حياة اقتصاديًا"، وتؤثر سلبًا على المصالح الأمريكية.
وبالانتقال إلى موضوع السياسة الأمريكية تجاه إيران، علق سينغ عما إذا كان يعتقد أن حملة "الضغط الأقصى" فعالة أم لا، فقال إن الولايات المتحدة تطبق حاليًا سياسة "الحد الأقصى للعقوبات" عوضا عن سياسة "الضغط الأقصى". وأن إيران لا تشعر بالعزلة الدبلوماسية خاصة بعد قضية Snapback في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة حيث كانت الولايات المتحدة في موقع الأقلية. وفيما يتعلق بالقوة العسكرية "أظهرت إدارة ترمب استعدادَها لاستخدام القوة" بحسب سينغ، لكنه في الوقت نفسه صرح بأن الإدارة "ابتعدت عن المشاركة العسكرية في الشرق الأوسط" مما جعل "القادة الإيرانيين يشككون فيما إذا كانت الولايات المتحدة مهتمةٌ بصراعٍ آخر في المنطقة". باختصار، يعتقد سينغ أن العقوبات الاقتصادية مفيدةٌ لإعادة إيران إلى طاولة المفاوضات، لكن الاعتماد على العقوبات الاقتصادية وحدها لن يؤدي إلى تحقيق الأهداف المطلوبة.
ويعتقد سينغ أن العقوبات ستبقى مفروضة على إيران، حتى لو تحقق فوز بايدن في نوفمبر القادم، لأن "العودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA) لن تكون بالسهولة التي يأملُها الكثيرون" وحتى ذلك الحين، ستستمر إدارة بايدن في تطبيق سياسة "الضغط الأقصى". ويضيف سينغ إن المشكلة مع إدارة بايدن هي أن العودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA) ستعتمد على ما إذا كانت إيران تريد العودة كلمة بكلمة إلى الاتفاقية أم أنها تسعى أيضًا إلى تغييرات ستقود تلقائيًا إلى مفاوضات بدلاً من الدخول في اتفاق. كما يشير باتمانجليج إلى أن الأمر ليس كما لو أن "بايدن سيبتهج ويرفع فجأة كل العقوبات" إذا فاز في الانتخابات. ومع ذلك، يعتقد باتمانجليج أن التحركات الإيرانية يتم التلاعب بها من قبل فريق بايدن، الذي يحرص على إعطاء صورة لما ينبغي أن يكون عليه الإذعان للإذعان وكيفية التعامل مع إيران. ومع ذلك، ذكّر كوزانوف أنه حتى لو رفع بايدن العقوبات على الفور، فمن المهم التأكد من أن رفع العقوبات سيؤثر إيجابًا على المؤشرات الاجتماعية للبلد وأن يشعر الناس العاديون بالتغيير.
من جانبٍ آخر، يعتقد كوزانوف أن احتمال إعادة انتخابِ ترامب؛ سيجعل الأثر طويل المدى للعقوبات المفروضة سابقًا على إيران بارزًا بشكلٍ ملحوظ، وسيزيد من تدهور الاقتصاد الإيراني. أما سينغ، فيرى بأن فوز ترامب في الانتخابات المقبلة من شأنه أن يُلجئ إيران إلى التفاوض، لكن باتمنجلينيج عبّر عن ارتيابه من وجود إمكانيةٍ لإجراء مفاوضات مع إدارة ترامب، حيث أكّد بأن فوز ترامب يعني انعدام أي مدخلٍ دبلوماسي، لاسيما وأن العديد من مؤيدي حملة الضغط الأقصى لا يكترثون لنتيجة دبلوماسية. ويرى باتمنجلينيج أنه من الصعب جدًا على الحكومة الإيرانية أن تقترن بالولايات المتحدة، وأنه من المستبعد أن يتفاوض الرئيس الإيراني القادم مع الولايات المتحدة دون وجود ما يرجّح جدوى تلك المفاوضات ونجاحها. إضافة إلى أن إيران تسعى لكسب ضماناتٍ لرفع العقوبات المفروضة عليها بسرعةٍ ويسرٍ، وتطمح إلى أن يكون الاتفاق الذي تصل إليه محاطًا بضمانات المعاهدة على نحوٍ يضمن استمراريته.
في ختام الجلسة، عبّر المشاركون عن عدم توقعهم انهيارَ الاقتصاد الإيراني أو النظام السياسي الإيراني في ظل الظروف الحالية، بينما يتفقون في الوقت نفسه على أنه سيتعين على إيران اتخاذ قراراتٍ فيما يتعلق بالإصلاحات الاقتصادية المحلية وكذلك التعامل مع الولايات المتحدة في الأشهر القادمة.